بعد مضي أكثر من ثلاث سنوات على الصراع الأوكراني المسمى بِ "العمليات الخاصة الروسية" في فبراير 2022 وبينما يسعى المسؤولون الأوكرانيون لتقديم أدلة ووثائق لكسب دعم الكتلة الغربية وذلك من خلال إثبات دعم بكين لموسكو في تجهيز وتوريد الصناعات الدفاعية الروسية، تُنتج الصناعات الدفاعية الروسية وتُوفر احتياجاتها الدفاعية والعسكرية بسرعة غير مسبوقة، ويحقق المسؤولون العسكريون في موسكو أهدافهم المحددة مسبقًا من خلال تصميم وتنفيذ موجة جديدة من الهجمات الصاروخية والطائرات المسيرة على كييف وخاركيف ومناطق أخرى في أوكرانيا، بهدف منع تعزيز الخطوط اللوجستية لحلف الناتو.
في هذا السياق وردت تقارير عديدة عن انخفاض حاد في معنويات القوات الأوكرانية وارتباك بين قادة جيش زيلينسكي بعد إخفاقات ميدانية متتالية، ووفقًا للأدلة المتاحة تسببت هذه الحالات في بعض الغموض وزادت من المخاوف بشأن قوة روسيا وتوسع نفوذها تجاه الغرب. كتبت صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية في تحليلٍ بهذا الشأن، محذرةً من خطر انتصار بوتين في الحرب الأوكرانية: "في مايو 1945، خيّم شبح القوة السوفيتية على شوارع برلين مع نهاية الحرب العالمية الثانية في أوروبا. شقّ الجيش الأحمر السوفيتي طريقه إلى هناك كجزء من حملة الحلفاء لهزيمة ألمانيا النازية، متقدّمًا في المعركة. والآن، وبعد 80 عامًا من المرجح أن تدفع نهاية الحرب الروسية الأوكرانية موسكو إلى توسيع نفوذها غربًا".(1)
في ظلّ هذا الوضع نفسه، وبالنظر إلى التقدم الكبير في الأسلحة الروسية في إنتاج الصواريخ دقيقة التوجيه، والطائرات الانتحارية بدون طيار محلية الصنع وأنظمة الحرب الإلكترونية نشهد تحذيرات من محللين عسكريين غربيين من احتمال شنّ روسيا عملية واسعة النطاق في يونيو. ومن أسباب مخاوف هؤلاء المحللين الانخفاض الحاد في مخزونات أسلحة حلف شمال الأطلسي أو مخازنها الفارغة والتغييرات في السياسات الدفاعية والاقتصادية الغربية، والتي أدّت إلى شكاوى عديدة من مسؤولين عسكريين أوروبيين بشأن نقص الدعم اللازم من الولايات المتحدة.
في هذا الصدد حذّر جهاز الاستخبارات الدنماركي في تقرير صدر في فبراير من أن روسيا قد تشن هجومًا واسع النطاق في أوروبا خلال ستة أشهر إذا ما ضمنت إضعاف حلف الناتو، وقد تكون في نهاية المطاف جاهزة لحرب شاملة في أوروبا خلال خمس سنوات.(2)
تجدر الإشارة إلى أن مجلة نيوزويك ذكرت سابقًا، نقلًا عن تقرير نهاية العام لوزارة الدفاع الروسية أن المعدات والتقنيات التي يستخدمها الجيش الروسي بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين تتمتع حاليًا بالاكتفاء الذاتي بنسبة تزيد عن 84%، وعلى الرغم من تزايد العقوبات العالمية المفروضة على روسيا، فقد زادت البلاد إنتاجها العسكري بشكل ملحوظ في عام 2023. كما نعلم أن العقوبات المالية كان لها تأثير أقل على الاقتصاد الروسي مما كان متوقعًا، حيث تمكنت البنوك الدولية غير المرتبطة بالدولار من استخدام قنوات مالية بديلة. كما ساعدت التقنيات الجديدة في التخفيف من أثر العقوبات، وسمحت لروسيا بإخراج اقتصادها من الشبكات المالية الخاضعة للعقوبات، مما كان له تأثير كبير على الديناميكية المالية ودعم اقتصاد الحرب الروسي.
في الوقت الراهن أثارت الحالات المذكورة أعلاه قلقًا في واشنطن وبروكسل بشأن التأثير النفسي والسياسي لإخفاقات أوكرانيا ونجاحات روسيا على الرأي العام والوحدة الداخلية لحلف الناتو. وفي هذه المرحلة تحديدًا نشهد انقسامًا بين أعضاء الأطلسي وتغيرًا في السياسة الأمريكية تجاه أوكرانيا وجهود أوروبا لتحقيق الاستقلال الأمني. حيث كشفت الحرب في أوكرانيا والانقسامات مع الولايات المتحدة عن هشاشة الدفاع الجماعي لحلف الناتو أكثر من أي وقت مضى، وتشير إلى ظهور تغييرات كبيرة.
هذه التغييرات التي تتراوح بين تعليق واشنطن للمساعدات العسكرية لكييف واستبعاد أوروبا من محادثات السلام الأوكرانية وتهديدات إدارة ترامب بانسحاب الولايات المتحدة من منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لم تؤثر فقط على علاقات أعضاء هذا التحالف، بل عرضت أيضًا أمن القارة الخضراء للخطر ووضعت مستقبل أوكرانيا في حالة من عدم اليقين.
في الواقع أثارت عودة ترامب إلى البيت الأبيض واستئنافه عمله قلق حلفاء واشنطن القدامى أكثر مما أثار قلق أعداء أمريكا وواجهتهم بتحديات غير مسبوقة. في هذا الشأن، كتبت مجلة "فورين بوليسي" في مقال نقلاً عن جدعون راتشمان، الصحفي والمعلق السياسي في صحيفة فاينانشال تايمز، في إشارة إلى الإجراءات الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب: "في حين أن إدارة ترامب تجاوزت حتى مراجعة التحالف عبر الأطلسي فإن طموحاتها السياسية تجاه أوروبا تعني أن أمريكا تُعتبر الآن منافسًا أيضًا، وفي الواقع أصبحت أمريكا الآن عدوًا لأوروبا".(3)
وأخيرًا تشير إلى أن المسؤولين الأوكرانيين حذروا سابقًا من أنه إذا لم يمارس الغرب ضغوطًا أكثر فعالية وأكثر صرامة على روسيا، فلن توسع موسكو نطاق هجماتها فحسب بل ستكتسب أيضًا القدرة على إنتاج المزيد من الأسلحة لمهاجمة الدول الغربية. وتشير هذه القضية وتحذير المحللين العسكريين الغربيين من إمكانية تنفيذ عملية روسية واسعة النطاق في يونيو المقبل وهذا سيعزز من حالة الاقتصاد الحربي الروسي، والذي أدى في نهاية المطاف مع التخطيط الذي تم تنفيذه في السنوات الأخيرة إلى تقدم الأسلحة الروسية وفعاليتها ضد سياسة الدفاع لدى الجبهة الغربية، مع زيادة إنتاجها وقدرتها على تخزين الأسلحة في مواجهة العقوبات الغربية.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال